علمني الله سبحانه و تعالى في الخمس السنوات الماضية ما لم أكن تعلمته عبر سنوات من حياتي، حول التطبيق العملي لهذه الآية العظيمة التي طالما كانت تهزني؛ {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} -أي: لا تتبع- {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
تعلمت أن جزءا كبيرا من حياتنا البشرية مليء بالكذب والغش والخداع، تعلمت أن وسائل المعرفة الحديثة من إعلام مرئي مسموع ومكتوب لا يمكن الاعتماد عليه بالحكم على الأشخاص والهيئات، فالمرئي يتم فيه القطع من السياق والقص واللصق ووضع العنوان المغاير للحقيقة، والمسموع إضافة إلى ما مضى يمكن فيه التحريف والتزوير، أما المكتوب فالكذب الذي يبلغ الآفاق والتحريف الذي لا يخطر بالبال لا يحتاج إلى دليل، وصفحات "الفيسبوك" ومحادثات "الواتساب" مثل هذا وزيادة، وقد رأيت ما حدث مع كلامي ومواقف دعواتنا المباركة ما لا أحصيه، وعرفت أنه ليس كل ما أراه أو أسمعه أو أقرؤه أبني عليه موقفا إلا بعد مزيد من التثبت.
وتعلمت الفرق الكبير بين التحليل والاستنتاج الذي يلبسه صاحبه ثوب الحقيقة وبين الحقيقة بالفعل، فأسأل صاحبي أو متكلمي عن مصدر ما يقول، أشاهده؟ أسمعه؟ أراءه؟ أم أنه استنتجه وأن هذا تحليله للمشهد؟
تعلمت أن كثيرا من المواقف يكون الجزء الظاهر منها الذي يؤثر على أفاضل، أعرفهم وأعرف فضلهم وعلمهم وورعهم، هو الجزء الظاهر من جبل الثلج؛ عشره فقط هو الذي يرونه أو نحوه، وتسعة أعشاره لا يرونه ولا يعلمونه؛ ومع ذلك جزموا بمواقف بناء على ما رأوه، وكان ذلك بلا شك تقصير منهم، نسأل الله أن يسامحني ويسامحهم لأنه من الممكن أن يؤدي إلى غرق كثير من السفن، إذا لم تعمل حساب الجزء المختفي.
تعلمت أثر المحيطين بالإنسان وخطورة إمداده له بالمعلومات أو الظنون التي يبني عليه أمره وموقفه وحبه وبغضه، وكيف استغلت هيئة وجماعة وأجهزة ذلك الأمر حتى تصوغ مواقف أشخاص وفق رغباتها لا وفق الحقيقة، رغم أن الشخص ليس محسوبا ولا منتميا لها، فعرفت أهمية أن أعرف هذا الأمر من عدة مصادر ولا أكتفي بالمحيطين.
تعلمت أن الحركة الإسلامية كثيرا ما أثر عليها الخطاب العاطفي، البعيد عن العلم وأهله، والذي يصوغه بدقة بعض الحالمين، وتؤججه الشعارات التي لا تقبل الوجود على أرض الواقع حتى يحدث الارتطام؛ فنخسر كلنا بدرجات متفاوتة لكنها في النهاية خسارة، وعرفت خطر الظنون والأوهام على العمل الإسلامي.
تعلمت مدى خطورة تأثير الجماهير على قيادتها، وكيف يضغط الأتباع على المتبوعين في اتخاذ مواقف معينة يدرك القادة خطأها ولكن لا يملكون مع ضغط الأتباع إلا الانقياد لها، فتحدث أسوأ النتائج. وعرفت أنه لا بد أن يتحمل القادة ألم التهمة، وضرر سوء الظن، وأذى الكلمات، بل والتصرفات، وخطر الانشقاقات، ولا يضحوا بأنفسهم ومن معهم ودعوتهم إرضاء للجاهلين، ورعاية لعواطف الغافلين، الذين يدركون الحقيقة عند الارتطام المحطم بأرض الواقع اللهم ارحم الحسن بن علي رضي الله عنهما.
وتعلمت أن كثيرا من الأمور لا يلزمني أن أتخذ منها موقفا، ولو سألوني عشرات المرات ما موقفنا من كذا؟ ما موقفنا من كذا؟ ولو تحرجت فقلت ما لا أعلم وأحيانا ما أعلم فكان فيه من الضرر الخاص والعام ما لا يعلمه إلا الله، فلا تقل إلا ما تعلم، ولا تقل أيضا كل ما تعلم إلا ما فيه مصلحة شرعية معتبرة، وما لا يلزمك عمل من ورائه من أحوال الناس والهيئات والجماعات لا يلزمك معرفته فضلا عن استنتاجه وتخمينه، فعندنا من المهام الجسام ما لا تتسع له الأوقات والأعمار فلا بد أن تراعي سلم الأولويات.
تعلمت أن الأحكام المطلقة العامة لا بد لها من تنزيل على أرض الواقع النسبي، الذي لا يمكن أن تغفل فيه اجتماع الحسنات والسيئات معا، وتزاحم الحسنات، وتعارض السيئات، فإن لم تكن تعلم حقائق الموازنة بين هذا كله فإياك والخوض فيما لا تعلم شرعا أو واقعا.
ليتنا تأملنا هذه الآية وعملنا بها {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire