Nombre total de pages vues

vendredi 21 octobre 2016

ما وراء الجنة

ما وراء الجنة

يَروي أهلُ السِّيَر: أنَّ عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قال: (إنَّ لي نَفْسًا تَوَّاقة؛ تاقت لابنة الخليفة فتزوَّجتُها، وتاقت للولاية فأخذتها، وتاقت للخلافة فنلتُها، والآن نفسي تتوقُ للجنة، فاللهم بلِّغني إياها).

لا يَنفكُّ الإنسان من الأمنيات والرغبات، والتي ينتقلُ معها طورًا بعد طور، حتى تَحُطَّه في آخر مشتهياته، إن كان لابن ادم مشتهياتٌ انتهائية.

حاجة النفس للترقِّي واحتلالِ مَكانات الشرف، دائمةُ الحضور في الذِّهن.

قَلَّ أنْ تَجِد بشرًا صامدًا يقاومُ التفكيرَ في ذلك.

وكلٌّ له أُمنياته، وكُلٌّ له عالمه المأمول.

فترى هذا يلومُ نفسَه في انقضاء عُمرِه وهو ما زالَ يُعالجُ كتابًا أو فَنًّا مِن العلوم لَمْ يُتقنه، وذاك يأسفُ على لحظاتٍ خَلَتْ في غير تردادٍ لآيات الله.

وذاك متذمرٌ من نفادِ آخر قطعةٍ مِن هذا اللبس ذي الماركةِ العالمية المُبَجَّلة، وذاك فَرِحٌ بعرض سياحي.

وهناك مَن يُقَدِّسُ العلاقات المخملية، وإن اضطر لِزُخرُفِ القول.

والبشرُ تدورُ أعينُهم حول عُظَمائهم؛ فانظرْ عظيمك، واحذر التزييف، فرُبَّ لِسان متعلق بالله، والقلب قد ولَّى الأدبار لاهثًا وراء فلان وفلان.

وهكذا دَوَاليك.

"لِكُلِّ سوقٍ مُرْتادوه، ولِكُلِّ أمنياتٍ أهلُها، والناس أبناءُ ما يُحسِنون"؛ كما قال عليٌّ رضي الله عنه.

لكنَّك لَن تهدأَ مِن هاجس الرُّقِيِّ، حتى تَرتَقيَ روحُك مِن جسدك، وتُرَدَّ في بطن أُمِّك الأرضِ.

إنك لو استعرضتَ رَغَبَاتِ البشر، لحزنت على نفسك، ولحمدتَ الله أيضًا.

فهُناك مَن ضَرَبَ المَثَلَ الأعلى في عبودية الدنيا، وهناك مَن سَبَح في عبودية ربِّه.

هناك مَن تاقت نفسه لأُنثى.

وهناك مَن جَرَى المالُ في دمه.

وهناك مَن لِلتَّوِّ جاء بخَاتمٍ روحانيٍّ، يزعمُ الترقِّي به في المناصب.

وذاكَ المسكين، الذي أهلكَ نفسَه لإرضاء مَن حوله، على حساب دينه وصحته، ظانًّا أنَّه بَلَغ منصبًا شريفًا عظيمًا.

هناك مَن رِجلُه على الأرض، وبصره في الجنة يطوف.

وهناك مَن يُحدِّثُ نفسه بالفردوس ولا يُريدُ بها بديلًا.

والرسول صلى الله عليه وآله وسلم عينه على الوسيلة.

وأحَدُ الصحابة مبدعٌ في أُمنياته؛ فقد قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "أُريدُ مرافقتكَ في الجنَّة"، ولسان حاله يقول: (كل الصيد في جوف الفَرَا).

وهل وراءَ الجنَّة مِن شرف؟

وهل بعدَ الوسيلة مِن موضع؟

لكنَّه هَالَني شرفٌ آخَرُ هو فوق الجنَّة... لا أقولُ: بِمَراحلَ ضوئية؛ لأنَّه إجحافٌ في الحكم.

بل لا تَجترئ الجنَّةُ بأشجارها وقصورها وأنهارها أن تَدخُلَ في مِثل هذه المُفاضلةِ إن لَم يَكُن هذا الشرفُ حاضرًا ومرافقًا للمؤمن حالَ كونه فيها.

الجنَّةُ بِذاتها (قصورًا، وأشجارًا، وأنهارًا) ليست بشيءٍ إِن تَمَّت المُقارنةُ بينها وبينَ هذا الشرف.

هو أمرٌ أيُّ أمر؟! وشرفٌ أيُّ شرف؟! بل إنَّ أهل الجنَّة قد تقلَّدوا هذا الشرف وهم في الدنيا، وأيضًا هو ملازمٌ لهم في الجنَّة بطريقةٍ لَم يُسمع بها.

فما هو هذا الذي وراء الجنة في الشرف؟

دونك إذًا...

• "نَفسُ الله".

وما أدراك ما "نَفسُ الله"؟!

يقول الله في الحديث القدسي: ((وَمَن ذَكَرَني في نفسه، ذكرتُه في نفسي)).

يا لله! ما هذه الطاعة التي جعلتك في نَفس الله مذكورًا؟!

ما هذا الشرف؟

نفس الله العلية أُذكر فيها!

ما هذا النعيم العظيم؟

حقًّا، إنَّه نعيم خارج حدود العقل.

وشرف لا يحق لك أن تصل إليه.

إنَّما هو فضلٌ محضٌ من ذي الفضل العظيم.

أَتَعقِل؟

يذكرك الله أنت، في نفسه هو.

لعله يَتَجلَّى لك شيءٌ مِن الفهم حين يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن أهلِ الجنَّة: ((ويُلهمون التسبيح والتقديس كَمَا يُلهمون النفَس)).

ليس شيءٌ من نعيم الجنَّة تمارسه باستمرارٍ مثل التنفُّس، لكن ذكر الله تسبيحًا وتقديسًا صار نَفَسًا تتنفسه.

التنفُّس لا ينساه أحد.

وهل أحدٌ مات لأنه نسيَ أن يتنفس؟!

ذِكرُ الله بطريقةٍ تنفُّسيَّةٍ أبدية سرمديةٍ في الجنة، نِتَاجُه (ذِكرُ اللهِ لك ذكرًا أبديًّا).

لعل ثَمَّ شيئًا من هذا التطهُّر القدسي لأهل الجنة.

وكأنهم في حالةِ استعدادٍ مهيب لِتَرَقٍّ آخر.

بالفعل إنَّهم سينظرون إلى وجه الله الكريم؛ هذا هو النعيم المزيد..

إنَّه شيء زائدٌ عن الجنة بقصورها وأنهارها.

نفس الله أن تذكر فيها، ووجه الله الكريم أن تنظر إليه؛ هو نعيم يفوق ما في الجنة من لذائذ.

الجنَّة لا تكاد تسوغ إلا بالله ذكرًا ورؤية له..

لربما أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لَم يُفرِد دعاء خاصًّا لتحصيلِ لذةِ حاسةٍ من حواسه الخمس، إلا حاسة البصر، ((وأسألك لذَّة النَّظر إلى وجهك الكريم)).

لربما أنَّ الذي سيدخل منزلة الوسيلة، سيحظى برؤية خاصَّة لوجه الله دون غيره، جعلها الله لنبينا.

أخيرًا: عليك أن تتأكد أن لَهَثَ الخلق إنَّما هو من أجل اللذَّات.

فمصيبٌ لها ومخطئ.

وسبحان مَن جعل اللذَّة الحقيقية في القرب منه ذِكرًا ورؤيةً!

اللذَّة هي السبب، فانظر أيُّ اللَّذاتِ تأسِرُك!

لفتة:

ذِكرُ الله مَدَدٌ يُبقيك..

يقول خالقنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire